كل شيء هادئ في المدرج .

كريييييييييييييييييييييك ) !!

على جسد السبورة ( الأبيض ) استغاثت الطبشورة ( البيضاء ) بين الأصابع الأسطورية لـ ( عدلي الطيب عبد الشافي بلابيلي ) بحزمتين من الشعر الأكرت الأبيض على جانبي رأسه المتعملق ..

كانت نظرات الرجل مرعبة حقاً .. يذكر قبل نزوله من البيت أنه قتل
( زاهدة )وقطعها بسكين المطبخ إلى قطع صغيرة ووضعها في الثلاجة لأنها طلبت منه أن يحضر معه كيلاً من البصل الأبيض لأجل صينية السمك على الغداء .. كان الدكتور الإسباني الوغد ( لورانزو إيموتراليتو مونتوبيرلوكارلو ) يطالبه ببحث يومياً مع ركلة محترمة أمام زملائه المصريين :
( غادة ) و ( سيد الشندويلي ) وعلى رؤوس الأشهاد .. لذلك علق البنطال ذي طبعة الحذاء على المقعدة في وسط الصالون كنوع من الرابط الذهني .. هكذا نسيت ( زاهدة ) أن تزهد الموت فطلبت البصل إياه .. الحق أنها نادمة الآن لأنها تصلح أن تحل محل السمك على الغداء .. يذكر ذلك وهو يقلب ناظريه بين شرذمة الخطاءين أمامه :
( أيها الحمقى !! أية رياح جهنمية ألقت بكم هاهنا !! ) ..و ارتجفت زاوية عينه اليسرى في غيظ مع زاوية فمه اليمنى التي سربت خيطاً من اللعاب وهو يفكر ويتشنج .. يتشنج و يفكر ..

الحقيقة أن الدكتور بلابيلي ناحل شاحب يلبس نفس البذلة التي اشتراها منذ الحملة الفرنسية ..

ورغم أن ( ملاك ميخائيل ) يرهبه كزومبي نسي مكانه الأصيل ووقف على السبورة متعاملاً مع الكميات الفيزيائية ، إلا أنه ظل يطن كذبابة في أذني الكائن الرقيق إلى جواره بأغاني ( تامر حسني ) التي على غرار :
- يا بنت الإيييييييييه !! لا لا لاااااااااا لا لا لاااا ه !!! أوووووووون توووووهههه !!

الحقيقة أن ( ملاك ) كاثوليكي المذهب ، لكنه ( رغم كل شيء ) تحول منذ يومين إلى الأرثوذوكسية لأن ( كريستين ) أرثوذوكسية هي الأخرى .. لذلك وضع السم في شوربة الدجاج التي أعدتها أمه على عشاء الأمس وغادر المنزل صباحاً دون أن ينقب عن النتائج .. على أية حال لن يمنعه أحد من محبوبته حتى لو كان ( أوباما ) ذاته .. في اللحظة التي صرخ فيها ( بلابيلي ) في وحشية :

- حركة الإلكترون الدقيقة مسار ( sin wave ) حول النواة .. إن ..

لكن ( كريستين ) فضلت أن تمثل دور الملاحق ( بفتح الحاء ) لا الملاحق ( بكسرها ) .. لقد ملت حقاً من أغنيات ( تامر حسني ) وترغب في أن تعيش أمواجاً أخرى من المعاني الفلسفية العميقة العاطفية .. ضمت نفسها في دلال ملول ، وزامت مطالبة بحقها في سماع ( حماقي ) هذه المرة .. لم تلاحظ الحمقاء أن ( عدلي ) صار يتوسط المكان .. في هنيهةِ مفاجأة رفعت عينيها لتواجه الهول القادم !! ( دراكيولا ) بشحمه ولحمه ونابيه ضبطهما متلبسين بجرم المشاعر .. الآن يخرج بلابيلي دبابة من جيبه :

- بووووووووووووووووووووووووم !!

انطلقت القذيفة الخارقة لتتجاوز أبعاد المكان .. ( كريستين ) الآن بلا رأس أصلاً ، ومن خلفها أصبح مثقوب الصدر ، ومن خلفه أصبح مثقوب البطن ، إلخ إلخ .. قفز ( ملاك ) هارباً من فقد الهوية كقط متكهرب ، فلو كان الغبار كثيراً هاهنا فهو لن يكون ( للدقة التصويرية ) أكثر ضرراً من الانفجار القادم ..

- أين حذائي ؟؟

صوت ناشج :
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآى .. إهي إهي ..
وركع خلف طاولته ليتقي الشظايا الناتجة عن الانفجار المدوي الذي تسمعه الآن يرج أعماق وجودك :

( بووووووووووووم ، ششششششش ) !! ..

زكائب من البشر طارت محترقة متفحمة ومتقطعة حمراء في كل اتجاه .. صريخ مروع هو .. المكان جحيم حقيقي يذكرك بمذابح
( صبرا وشاتيلا ) أو بمذابح ( دير ياسين ) المؤسية .. والواقع أنه كدكتور له وزنه واحترامه عاد ( بلابيلي ) إلى سبورته .. نفض الغبار عن عطفه في بساطة ، وطفق يشرح في رطانة معادلات مستويات الطاقة لذرة ( الفرانسيوم ) ..

هنا لمح جرواً يرتجف أسفل الطاولة ..

( الوقح ) !!

وبحركة ( جاكي تشانية ) انتزع الدكتور سيف المحاربين ( الشاوليين ) القدماء وقفز خمس أمتار لتلمس قرعته سقف المدرج ، ثم هبط فوق الجرو الراجف .. الآن السيف يشق الهواء .. الآن السيف يشق الجرو الراجف .. الآن هناك محارب أسطوري وخصم مقسوم نصفين ودماء حمراء تتطرطر كمياه ( ماسورة ) مكسورة ..

و انهارت يدا ( ملاك ) عن جانبيه لتعلن أن الجرو الراجف كان في الواقع ( ملاك ) لو تصورت المشهد ..
و كدكتور له حصافته وفصاحته وشهاداته وثقله العلمي الأكاديمي وهيبته ووقاره ، اعتدل ليواجه الطلبة ( من تبقى منهم في الواقع ) ليحدثهم عن ( ظاهرة الانبعاث الإشعاعي ) ..

فالعلم نور على كل حال !!

***

وبينما كان ( عدلي الطيب عبد الشافي بلابيلي ) يغسل يديه في حمام منزله ، أحس أن أحداً ما يتنفس في مؤخرة قفاه .. الشعور غير المحبب الذي يبعث في روحك برجفة خفيفة .. رجفة حارة :

- ( أنفففففففففففففففف ، أنفففففففففففففففف ) !!

ونظر خلفه بسرعة : لا شيء !!

إن عدلي ماركسي وهو لا يؤمن بما ليس مادياً .. لذلك قدر أنه يحتاج إلى الراحة أكثر منها : ( أشياء ليس لها تفسير ) .. الأشياء التي ليس لها تفسير لا تحتاج تفسيراً لدى ( كارل ماركس ) و ( بلابيلي ) ، لذلك آثر أن يرقد على فراشه مسترخياً لابساً منامته الصوفية المخططة بخطوط زرقاء رغم بقعة الطبيخ التي على نهاية البنطال .. لقد كان يوماً مليئاً بالعمل والجد والاجتهاد .. ( أين نحن ؟؟ )

- عدلييييي !!

ماذا ؟؟

كان صوتاً لا مصوت به ، رغم أنه سمعه بوضوح .. وزاغت عينا
( بلابيلي ) وهو يقدر أن شبحاً ما يريد أن ينتقم .. الأشباح التي تلاحق ( عدلي ) تكون في العادة أرواح طلبة ماتوا أثناء تأدية الخدمة ( على المدرج ) ، الآن ترى القادمين بعيون الجحيم الصفراء .. ( ملاك ) و ( كريستين ) .. إنه الانتقام .. إن فكرة الانتقام توحي بعبثية ما بين عالم الأرواح وعالم البشر ، وهي فكرةٌ وقودٌ لأفلام الرعب التي تصنعها وتعلبها ( هوليوود ) لتعرضها على جماهير المثقفين العرب ، كأن كل مقتول يعود ليقتل من قتله في دنياه قبل أن يتوفاه الله ، دعك من كونها نوعاً من العولمة ، عولمة الثقافة الدينية بالطبع ، لكن سخافة الصانع وسخافة المتفرج النبيه قنطرة الرواج .. ولذلك عندما رأى عدلي شبحي العاشقين أدرك أنه في ورطة حقيقية ..

هاهو القاتل ينتقم منه ، وهاهما العاشقان المثخنان ( أحدهما بدون رأس والآخر شيء يلم نصفيه كل ربع ثانية ) .. منظر أسطوري جدير بإرعاب أعتى القلوب و جدير بالإطاحة بك ( أيها القارئ المثقف ) تحت بطانيتك الحمراء لترتجف منادياً على ماما :

- ( ماااااااامااااااااااا .. يا مااااااااااااامااااااااااا) !!!

لكن ماما الخاصة بـ ( بلابيلي ) لم تحضر لإنقاذ (جحلوفها ) لأن غابة النخيل فوق قبرها بقي لها القليل لتتحول إلى أدغال استوائية ، دعك من أنها تمارس حياتها كعجوز لندنية لعينة ( كما يقول محمد عفيفي ) في عوالم ما تحت الأرض .. هكذا أسقط في يدي ( عدلي ) .. لن يتحدث الرجل مرة أخرى عن الذرة وعن مستويات الطاقة وعن الانبعاث الإشعاعي .. الحقيقة أن شريط حياته يمر الآن أمام عينيه دون ميكساج أو مونتاج أو دوبلاج أو ( علك فاضي ) .. يدا العاشقان تمتدان إليه في نشوة لتحويله إلى جثة .. لا مفر من الموت .. لذلك قل لي ( بالله عليك ) هل هذه هي النهاية ؟؟

هنا فقط تذكر بلابيلي أنه يحتفظ بدبابة أخرى في جيب بنطال منامته .. أخرجها في لهفة قبل أن تمس اليدان الشبحيتان عنقه المرتج .. بكل ما لديه من رغبة في الحياة ، ورغبة في الدفاع ، حيث سرت في نخاعه الشوكي ارتجافة الظفر بالأمل .. لقد سرت في الحقيقة في نخاعه المستطيل أيضاً لو أردت الدقة .. لاشك في الواقع أنها سرت في مهاده وتحت مهاده لو كنت تتصور المشهد بمهادك وتحت مهادك أنت أيضاً .. و هات يا انفجارات : بوم بوم طاخ طاخ بوم بوم .. وتحول المكان إلى كرنفال برازيلي من إياهم .. وبعد أن تأكد تماماً ( بلابيلي ) أن الشبحان أصبحا قطعاً من البتلو الطازجة ( الشبحية ) أعاد الدبابة مرة أخرى إلى جيبه .. ثم استرخى في تواضع مطفئاً الأنوار على سريره الخشبي ليحلم بغد واعد و أكثر جمالاً ..

امممممممممممممممممممممممممممم

بداية تبشر بنوع جديد من الادب ...

ادب الرعب .. الغموض !

ارى لديك حسا خفيا و ميلا قويا لذلك ..

و دائما ما تعجبني تلك التوريات الصغيرة المتناثرة هنا و هناك ...

فهي تجعل القارئ في حالة نشاط ذهني دائم اثناء القراءة

"غابة النخيل فوق قبرها بقي لها القليل لتتحول إلى أدغال استوائية"

.. تشبيه رائع فعلا ! :)

استمرررررر في الابداع يا بشمهندس

شكراً للمرور تعظيم سلام

.

» يا تري تعمل ايه لو طلعلك فار...لأ وكمان في المدرج ...
» انقلاب عسكري هادئ بمصر
» حوار هادئ حول أنظمة التشغيل