مناسبة هذه القصيدة ذلك أن حسان رضي الله عنه قد زل لسانه في حادثة اتهام أم المؤمنين الفقيهة الشاعرة العالمة العفيفة
الصبورة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وقد تاب وندم وعفا عنه بعد أن برء الله أمنا رضي الله عنها بقوله تعالى :
" الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ..... اؤلئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " , وكان في آخر عمرها يدخل عليها وينشد هذه القصيدة بين يديها , وهي من ابلغ قصائد التاريخ ومعانيها رائعة جميلة غاية في البلاغة وإنها لمن جوامع الكلام , وانك والله لتذرف عينك عند تتأمل معانيها حينما يذم شاعرنا المبجل نفسه وترى اثر الندامة تتخلخل من بين كلماتها البراقة والتوبة الصادقة من مفرداتها .
شرح بعض الأبيات
وقول حسان في عائشة :
" حصان رزان ما تزن بريبة -- وتصبح غرثى من لحوم الغوافل"
حصان فعال بفتح الحاء يكثر في أوصاف المؤنث وفي الأعلام منها ، كأنهم قصدوا بتوالي الفتحات مشاكلة خفة اللفظ لخفة المعنى ،أي المسمى بهذه الصفات خفيف على النفس وحصان من الحصن والتحصن وهو الامتناع على الرجال من نظرهم إليها ،
وقالت جارية من العرب لأمها :
يا أمتا أبصرني راكب ----- يسير في مسحنفر لاحب
جعلت أحثي التراب في وجهه -- حصنا وأحمي حوزة الغائب
فقالت لها أمها :
الحصن أدنى لو تآبيته -- من حثيك التراب على الراكب
ذكر هذه الأبيات أحمد بن أبي سعيد السيرافي في شرح أبيات
الإيضاح والرزان والثقال بمعنى واحد وهي القليلة الحركة .
وقوله
" وتصبح غرثى من لحوم الغوافل"
أي خميصة البطن من لحوم الناس أي اغتيابهم وضرب الغرث مثلا ، وهو عدم الطعم وخلو الجوف وفي التنزيل "ً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ " الحجرات12, ضرب المثل لأخذه في العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم
والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر. وقال ميتا ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ثم هو في التحريم كأكل لحم الميت . وقوله من لحوم الغوافل يريد العفائف الغافلة قلوبهن عن الشر كما قال سبحانه
" إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَات "
جعلهن غافلات لأن الذي رمين به من الشر لم يهممن به قط ولا خطر على قلوبهن فهن في غفلة عنه وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بالعفاف .
وقوله
" له رتب عال على الناس كلهم "
الرتب ما ارتفع من الأرض وعلا ، والرتب أيضا : قوة في الشيء وغلظ فيه والسورة رتبة رفيعة من الشرف مأخوذة اللفظ من سور البناء .
وقوله
" فإن الذي قد قيل ليس بلائط"
أي بلاصق يقال ما يليط ذلك بفلان أي ما يلصق به ومنه سمي الربا : لياطا ، لأنه ألصق بالبيع وليس ببيع. وفي الكتاب الذي كتب لثقيف وما كان من دين ليس فيه رهن فإنه لياط مبرأ من الله .
وقوله في الشعر
" فلا رفعت سوطي إلي أناملي "
دعاء على نفسه وفيه تصديق لمن قال إن حسان لم يجلد في الإفك ولا خاض فيه وأنشدوا البيت الذي ذكره ابن إسحاق :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله
على خلاف هذا اللفظ
لقد ذاق عبد الله ما كان أهله
وحمنة إذ قالوا : هجيرا ومسطح