هل هي فلسطين أم غزة أو حماس.. أيهم برسم الإبادة والحرق والمحو من الخريطة؟.. وأي منهم هو هدف المحرقة الصهيونية الحقيقي؟.. الموقف من حماس مجرد ذريعة لجولة جديدة من الإبادة والتطهير العرقي للفلسطينيين.. فمحترفو القتل والإبادة ليسوا في حاجة لذريعة يتذرعون بها لاستئناف ما جبلوا عليه، ومارسوه من قرن أو يزيد.
وما زال قدر فلسطين وسيستمر دفع ضريبة الدم دفاعا عن أمة سلمت قيادها لغبي أو عاجز أو فاجر أو متواطئ أو شريك. والمشاركة الأوضح في المحرقة الجارية هي مشاركة مصر الرسمية، وإن كانت تحاول ستر عورات ما تقترف بكل ما تملك من أوراق توت عجزت عن إخفاء شيء. ورغم وضوح مستوى المشاركة وافتضاحه يواصل الحكم عناده المعتاد ولم يبد رغبة أو استعدادا للمراجعة أو التوبة، وتمادى حتى النهاية، ولم يتح لنفسه خط رجعة يحفظ به ما قد يكون قد تبقى من ماء الوجه، تحسبا لتداعيات غليان أمة وتطورات عالم غاضب. والمشاركة الرسمية المصرية في محرقة غزة تشعر بها على أكثر من صعيد.. عسكري وأمني.. سياسي واقتصادي.. مشاركة كاملة وشاملة. واستقر المستوى العسكري والأمني المصري، من زمن، في خدمة المجهود العسكري والأمني الأمريكي والصهيوني، لهذا لم تبدأ تل أبيب مغامرتها إلا بعد الاطمئنان إلى المشاركة الفعلية والمباشرة من قبل القاهرة. وفق صفقة ترتب عليها 'إعلان الحرب' على غزة من قلب العاصمة المصرية، وهو ما قامت به ليفني، وزيرة الخارجية الصهيونية.. لم يعترض عليها مسؤول، مع ما في ذلك الإعلان من إهانة وانتقاص من سيادة مصر.. تركت وزيرة الخارجية الصهيونية القاهرة لتبدأ المحرقة في اليوم التالي، وذكرتنا باجتماع مناحم بيغن وأنور السادات عشية ضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981!.. هذه الصفقة كشفها مصدر موثوق، وتفاصيلها أن ليفني حملت معها اتفاقا (لم يعلن بعد) قبل بدء المحرقة بساعات، ينص على موافقة تل أبيب على زيادة القوات المصرية على الحدود مع فلسطين، وهذه الزيادة ليست لمساعدة أهل القطاع أو حمايتهم، إنما لمواجهة الضغط المتوقع من جانب أهل غزة طلبا للمساعدة والنجدة أو البحث عن مأوى بعيدا عن جحيم المحرقة!!. وشعر كثير من المراقبين أن الاتفاق نزل فورا إلى حيز التنفيذ من درجة ومستوى العناد غير المبرر في رفض فتح معبر رفح، ومن تجاهل غليان الشارع المصري والضغوط الشعبية العربية والإسلامية والدولية.. ويأتي قانون الطوارئ، الذي دخل عامه الثامن والعشرين فيمنح قوات الحدود وقوات الأمن والشرطة صلاحيات مطلقة. مكنتها من توجيه عنفها ووحشيتها إلى المواطنين وشل قدرتهم في الوصول إلى الحدود لنجدة الأشقاء في غزة.
ولا يختلف المجهود السياسي حيث يتطابق الخطاب المصري مع نظيره الصهيوني والأمريكي والبريطاني والألماني، وكلهم يبالغون في تحميل حماس مسؤولية المحرقة، ويبررون الإفراط في استخدام القوة بأنه الحل للتخلص من صواريخها. مع ما صاحب ذلك من حديث ممل عن شرعية سلطة محمود عباس المنتخبة!!، هذا صحيح.. لكن قصر الشرعية عليه وسحبها من اسماعيل هنية.. هو الانفصام السياسي بعينه. والغريب أن اللغة الرسمية المصرية وهي تربط اكتساب الشرعية بالانتخاب كأنها وضعت الانتخابات شرطا حاكما في علاقة الحكم بالمصريين.. ويعلم القاصي والداني كيف تجرى الانتخابات في مصر، ويعرف من يصدر التعليمات بالتزوير والتزييف.. والحقيقة أن شرعية هنية ونواب حماس لا يشوبها النقصان بنفس المستوى الذي يشوب شرعية أبو مازن.. والكل يقر بأنه حصل على ثقة الأٌغلبية، إلا أن شرعيته تعاني من عوار واضح من لحظة تخليه عن خيار المقاومة. أما هنية، مهما كان رأي البعض في أدائه.. وصل إلى منصبه بالأٌغلبية البرلمانية، وزاد عليها أن خيار المقاومة لديه لم يسقط، وهو الخيار الذي يعطي من يقوم به ويمارسه مكانة سامية ولائقة.. أقول هذا وأنا لست من الإسلام السياسي، ولا محسوبا على الإخوان المسلمين، لكني من مؤيدي المقاومة ضد الغزو والاحتلال والاستيطان، ومن المقدرين لرجالها وأنحني إجلالا أمام تضحياتهم.. وليس الآن وقت عتاب أو نقد لحماس، يكفيها ما وقعت فيه بعد أن بلعت طعم الديمقراطية بـ'الخلطة' الصهيونية، التي تنضج على مواقد الاستيطان، وموائد الاحتلال، وفي قاعات التنازل عن الحق.. الجغرافي أو الوطني أو التاريخي أو الديني، أو كله معا، ومن يخالف ذلك عليه أن يدفع ما تدفعه غزة اليوم وما سيدفعه غيرها غدا.. وفي ظروف سقط فيها النظام الرسمي العربي وعجز عن حماية غزة أو تقديم العون لها. وضع المقاوم كمن يؤدي فرضا من المفترض أن يقوم على عاتق أشقائه كـ'فرض عين'، وتحول بفعل السقوط إلى 'فرض كفاية' يتحمله أهل فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان دون غيرهم.
لقد انحط الخطاب الرسمي المصري، وهبط إلى مستوى الخطاب الصهيوني.. يدين المجني عليهم والضحايا ويشد من أزر الجناة والقتلة.. وبدت الصورة كما يرسمها وكأن غزة قوة عظمى عاتية بدأت الزحف على مصر لغزوها، وتمثل خطرا شديدا على أمنها الوطني.. وهذا التدليس لا يضاهيه إلا ما جاء على لسان وزير الخارجية البريطاني، في حديثه للقناة الرابعة البريطانية، يوم الاثنين الماضي.. ادعى أن حماس اختطفت غزة واختلفت مع محمود عباس، الزعيم المنتخب، حسب قوله، وأضاف سببا آخر هو ما أسماه بطء 'العملية السلمية'، ورفض حماس لحل الدولتين.. كأن الدولة الفلسطينية قامت وتم ضبط حماس وأهل غزة متلبسين برفضها وعدم القبول بها!!.. ومازالت الدولة التي تمنح من قبل مغتصبيها وستبقى وهما إلى ما شاء الله!! وما يدعو للألم هو تصاعد لغة التحريض الرخيص الذي يبثه الخطاب السياسي المصري ضد أهل غزة.. المحاصرين.. المجوعين.. المرضى.. المشردين.. المعوقين.. الثكالى.. الأرامل.. الأيتام.. تحريض يعكس مستوى الانعزاليين والليبراليين الجدد، وأصحاب 'الفكر الجديد' الاستعلائي البغيض، وما انحدروا إليه.
يبرر حسني مبارك إصراره على إغلاق معبر رفح بغياب الأطراف الموقعة على اتفاقية المعابر، وبأنه لا يريد تكريس الانقسام الفلسطيني!! وتناسى أنه هو من أمر بفتح المعبر أكثر من مرة في ظل هذا الغياب!! وهو من كرس الانقسام حين رفض نتائج الانتخابات وضرب بإرادة الفلسطينيين عرض الحائط، وبانحيازه لسلطة رام الله، وتجنيد المجهود المصري الشامل لصالح المشروع الصهيوني، ومساعدة آلته العسكرية في القضاء على البنية الأساسية لإدارة القطاع. وهي بنية لم تكن ملكا لفصيل أو حزب بعينه.. وهي إن كانت اليوم تحت سيطرة حماس، فسبق وكانت لفتح، وهنا نتذكر الحجج والذرائع التي سيقت في تبرير الحملة الصهيونية على لبنان 2006.. وتبناها الخطاب السياسي والإعلامي لقوى 'الاعتلال العربي'، لا أقول الاعتدال العربي، التي استماتت كي تتيح الوقت الكافي للقضاء على المقاومة وحزب الله، ولما استمرت الحرب ثلاثة وثلاثين يوما ولم تتحقق الأماني ولا المساعي!! تم وقف إطلاق النار. ومشاركة مصر الرسمية بما تحمل من إصرار وتعمد، ساهمت في إفشال الجهود الرامية إلى عقد قمة عربية لبحث الموقف!!
وإذا انتقلنا إلى المجهود الاقتصادي الداعم للمحرقة.. نجده ليس وليد اللحظة.. أساسه وضع منذ زمن. منذ التوقيع على معاهدة كامب ديفيد والاتفاقيات الملحقة والبرتوكولات اللاحقة.. كلها استهدفت تقوية البنية الاقتصادية للدولة الصهيونية، وإضعاف البنى الاقتصادية العربية، خاصة البنى المصرية.. حصلت الدولة الصهيونية على امتياز 'الدولة الأُولى بالرعاية'، وأضحت صاحبة يد طولى. بسطت بها نفوذها في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والسياحة وأسواق المال.. فسدت زراعات كثيرة وعانى المزارع المصري من أثر البذور والأسمدة والمبيدات المسرطنة، وسقط ملايين المصريين ضحايا خطة توطين الأمراض الفتاكة والمميتة، في عملية قتل منظمة وبطيئة.. يمكن الاطلاع عليها في تقارير عدة.. أشارت إلى أصابع صهيونية جلبتها الحكومة المصرية على هيئة خبراء وفنيين ومدربين، ولولا ضيق المساحة لنشرنا وقائع مذهلة في هذا الموضوع.. عما أصاب الزراعة وما حدث للمياه من تلوث وللأغذية من تسميم. وما انتهى إليه حال التربة المصرية الأكثر خصوبة وانتاجية في العالم. وما حدث للصناعة ثابت في اتفاق المناطق الصناعية المؤهلة 'الكويز'، وفرض المكون الصناعي الصهيوني كأساس في كثير من الصناعات المصرية.. خاصة النسيج والملابس، وفي الطاقة حصلت الدولة الصهيونية على النفط بأسعار خاصة تفضيلية، ومنحت تل أبيب الغاز بما يشبه المجان.. وتحدى النظام أحكام القضاء ببطلان عقود بيع الغاز لها، ويرى عدد من الخبراء أن الدعم المقدم من الميزانية المصرية للاقتصاد الصهيوني يفوق ما تحصل عليه من المعونة الأمريكية، فضلا عن أن تصدير الحديد والأسمنت كان بغرض استخدامه في بناء جدار الفصل العنصري الذي يفصل المعازل الفلسطينية عن مستعمرات المستوطنين، ويتولى تقطيع أوصال ما تبقى من الأرض الفلسطينية.
وننتهز فرصة المحرقة لتوجيه كلمة إلى المتواطئين والمشاركين.. أقول لهم إن الخداع الذي تمارسونه باسم منع توريط مصر في حرب أو مغامرة غير محسوبة.. ليس هناك من طلب منكم الحرب أو المغامرة نيابة عنه، ودعاواكم بأن العرب يريدون القتال حتى آخر جندي مصري، ما هي إلا أكذوبة تتردد على ألسنة من لا يعرفون الكرامة، وغير القادرين عن الدفاع عن شرف الوطن والإنسان.. إنهم أعداء لأنفسهم قبل أن يكونوا أعداء لمصر.. عزلوها فعزلوا، وحطوا من قدرها فحطوا من قدر أنفسهم، وأساءوا إليها فأسيء اليهم.. الأعزاء والشرفاء يدافعون عن أنفسهم ويقاومون ويستبسلون ويستشهدون.. ويجيرون من يستجير، ولم يسبق لهؤلاء أن اقترفوا معروفا بهذا المستوى.. سوابقهم مدونة ومسجلة. اندمجوا في المجهود العسكري الأمريكي في حرب الخليج الثانية، وهيأوا وتواطأوا على غزو العراق وطعنوه. وكانوا في انتظار الدور في غزو سورية.. ليسوا إلا شركاء الشر والخراب والموت.. شرهم غالب وخيرهم غائب.. لن يطلب منهم أحد العون.. فهذه سجايا لم يتربوا عليها.. يا ليتهم يجربون، ولو مرة، فتح الحدود أمام المصريين ثم يحكمون عليهم.. من يتحدث هذه اللغة ويمارس هذا التدليس لا يؤتمن على أرض أو عرض أو متاع.. فمن باع مصر للاحتكارات واللصوص، ومن أضعفها عسكريا وسياسيا واقتصاديا عليه أن يصمت ويتوارى بعيدا عن أنظار من يدفعون ضريبة الدم ويبذلون الروح. إنهم استعذبوا العبودية لمن يصدر لهم الأوامر من تل أبيب وواشنطن ولندن، وحين يستنفدون أغراضهم يلقى بهم في مزبلة الحياة.