أيها العلمانيون... عودة إلى الله !!
قلنا في مقالٍ سابقٍ إن جذور العلمانية تمتد في أوروبا إلى ما قبل عصر النهضة.. وأنها قد وصلت في مراحلها المختلفة إلى فصلِ الدين عن الحياة أو عن المجتمع، بحيث يكون الدين محصورًا في ضمائر الأفراد أو في دور العبادة.. لا يتدخل في حياةِ الناس.. ولا يعني بمشاكلهم.. ولا يحكم هذه الحياة وفق توجيهاته العامة أو التفصيلية ومرجعيته الكلية.. فتبقى هذه الحياة بعيدة عن الدين غريبة عنه.. بمعنى أن يكون الدين في وادٍ والحياة أو المجتمع في وادٍ آخر، لا التقاء بينهما ولا ارتباط، وقلنا إنه من الظلم الواضح والتعسف في الحكمِ أن نجعل ما حدث في أوروبا والغرب يمكن تطبيقه في بلادنا الإسلامية، ويمكن نقل التجربة بكل تفاصيلها إلى بلداننا.. فنفصل بين دين الإسلام وبين حياة أو مجتمع المسلمين؛ ذلك أن للغرب ألف عذر في تركِ النصرانية وهجرها واختيار العلمانية وفصل الدين عن الدولة (كتاب الماركسية والإلحاد ص26 للشيخ الخطيب)؛ لأن الكنيسةَ وقفت بجوارِ الملوك والقياصرة والأباطرة ضد الفقراء ولأنها فرضت صكوك الغفران ولأنها حرَّفت النصرانية وحاربت الاختراع والابتكار وصادرت حرية العلماء وحجرت على تفكيرهم.
ومن الجدير بالذكر أن أغلب الذين رفعوا راية العلمانية اليوم.. وافتخروا بأنهم "علمانيون" ويحملون الفكر العلماني أو التنويري.. أغلب هؤلاء كانوا بالأمس يحملون الفكر الماركسي الشيوعي اللينيني.. وربما دخل الكثير منهم السجون والمعتقلات في الحقبةِ الناصرية أو في غيرها، ولا نحسب أنهم قد خلعوا هذا الرداء الشيوعي أو مزقوه.. وتركوا هذا الفكر الأحمر وابتعدوا عنه.. إنما وجدوا ضالتهم في الفكر العلماني فحملوه وتفننوا في الترويجِ له والدعوة إليه، بعيدًا عن تصنيفهم القديم كشيوعيين ماركسيين.. خاصةً بعد سقوط النظامِ الشيوعي في الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي.
وإذا كانت الشيوعية الماركسية تهدف أساسًا إلى إزاحةِ الدين جانبًا.. وتعتبره أفيون الشعوب.. وأنه- أي الدين- مناوئ للعلم.. فإن الفكر العلماني يحمل نفس الموروثات والأصول ويرفض بكل وضوحٍ اعتبار الدين أساسًا للحياة ويتجه إلى اعتماد الواقع المحسوس فقط، ونبذ كل ما لا تؤيده التجربة، والتحرر من العقائد الغيبية لأنها في زعمهم ضربٌ من الأوهام.
ومن الغريبِ كذلك أنَّ شيوعيّ الأمس علماني اليوم يعتبر نفسه مناصرًا للديمقراطية والحرية داعيًا لهذه المبادئ، مؤيدًا لحقوق المرأةِ والفقراء والمهمشين، وظنَّ هذا الذي يُغيِّر جلده متقلبًا بين المبادئ والأفكار التي تُحارب الإسلام وتتصدى لرجاله.. ظن أنَّ الزمنَ أو الناس قد نسيت.. أن الشيوعية كانت حربًا على الدين والديمقراطية، وأنها ركَّزت السلطة المطلقة بيد اللجنة العليا الحاكمة.. تستأثر ومَن يسير في فلكها وركابها بكل الأموالِ والامتيازات وتستخدم كل ألوان البطش والتعذيب والجبروت والإقصاء للمخالفين في الرأي.. ونسى كذلك أنَّ الشيوعيةَ كانت تحمل بذور فنائها.. ومعاول هدمها.. وما لبثت أن تقطعت أوصالها وتبدد شملها.. وتفكك هذا الجسم الضخم إلى دويلات وجزئيات.. وكثير منها قد خلع ثوبه الشيوعي ونظامه الماركسي.. مفتونًا بالهامبورجر الأمريكي وصيحات المودة الغربية.
حملة منظمة على المبادئ والقيم والدين
إن الذي يرصد اتجاهات كثيرٍ من الكُتَّاب وأصحابِ الأقلام.. والأعمدة في كبرياتِ الصحف وصغرياتها.. يلاحظ عجبًا.. إذْ يرى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء.. يُجنِّد قلمه وفكره وإبداعه إلى ناحيةٍ واحدةٍ تصوب إليها السهام وتسدد إليها الضربات.. وتكال لها التهم.. هذه الهجمة الشرسة والحرب المنظمة تتوجه إلى قيم الأمةِ وثوابتها ومواريثها.. تتجه إلى الإسلام أساسًا ودعوة الإخوان المسلمين.. وتحاول هز هذا الكيان العظيم.. والتشكيك في أصوله وثوابته وأهدافه وغايته ووسائله وطرائق عمله كمنهاجٍ إصلاحي يقوم على أساسه مشروع نهضوي تغييري يأخذ الأمة كلها إلى برِّ الأمان.. وتأخذ مكانها اللائق بها كأمةٍ رائدة.. ومتميزة ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143).
ومن العجيب أن ترى كل كاتبٍ يريد أن يحظى بمكانة.. ويتزلف إلى السلطة هنا أو الكارهين للإسلام هناك.. هذا الكاتب يُشرع قلمه كالسيفِ المسلول في ميدان القتال.. وجاهز للانطلاق كالقذيفة أو الصاروخ.. يشكك في نوايا العاملين لنصرةِ الإسلام.. ويفتش عن مكنونِ صدورهم ويؤول كل ما يصدر عنهم أفرادًا ومجموعات تأويلات تآمرية خيانية.. وكأنَّ الإسلامَ والدعوة هو العدو الأكبر والخطر الأعظم، والحقيقة أن السلطة الحاكمة تُقدِّر هذا النوع من الكتاب.. وتُسهل له مهمته.. وتغدق عليه بألوان العطايا والامتيازات والجوائز المختلفة تشجيعًا له وترغيبًا في هذا اللون من الكتابةِ الهجومية على التيارِ الإسلامي بل على الإسلامِ نفسه.
والآن نتناول بالتحليل موضوعين تمَّ نشرهما في يوم واحد بتاريخ 15/11/2006م بجريدة الأهرام واسعة الانتشار.. لكاتبين لهما باع طويل في الكتابة ذات اللون العلماني.. وكل منهما له قناعاته الفكرية وإسقاطاته على الواقع المعاش، وله كذلك معاركه التي يخوضها دفاعًا عن راية ويمتلك زاوية أو مساحة في هذه الجريدة قد لا تُتاح هذه المساحة لأحدٍ غيره من ذوي الفكر الإسلامي المناهض له.
الموضوع الأول : تحت عنوان (لماذا؟) وجاء على شكل قصيدة شعرية فيقول:
لماذا تركنا نجوم الفتاوى يسلبون إرادة العقلاء؟
لماذا ذبحنا العقل قربانًا لسلطان الخرافة؟
وجلسنا في استكانة نلعن الدهر ونحلم بأيام الخلافة؟
فنلاحظ هنا أن الكاتب يضايقه ذلك الانتشار في بعضِ الفضائيات لبعض البرامج الدينية التي نتج عنها صحوة في الحياة الإسلامية ويقظة لعامة المسلمين وخاصتهم.. وزيادة في الوعي بقضايا الإسلام وشئون المسلمين.. وما نزل بهم من بطشٍ وظلمٍ محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، يتحدث الكاتب عن أصحابِ البرامج الدينية ومَن يستضيفونهم من شيوخٍ ومفكرين بأنهم "نجوم الفتاوى" طبعًا يساويهم بنجومِ الرقص والطرب والفن والكره.. وهذا من باب الحطِّ من قيمتهم.. ويصورهم كذلك أنهم يسلبون إرادة العقلاء.. وما رأي كاتبنا الهمام صاحب دعوى موت "سيبويه" وإعلان وفاة "النحو العربي" ما رأيه في كل ما يصدر عن الفضائيات وما أكثره متضمنا الدعوة إلى الانحلال والرذيلة والفساد.
وعندما يذكر الكاتب "الخرافة" فإنه لا يخفى على أحدٍ أنه يتكلم عن التدين تلميحًا لا تصريحًا ويتضح ذلك من الشطر الآخر للبيت (وجلسنا في استكانةٍ نلعن الدهر ونحلم بأيام الخلافة)، ولماذا يصاب الفكر العلماني بحساسيةٍ خاصةٍ تجاه فكرة "الخلافة" وهي تُمثِّل جماع وحدة المسلمين جميعًا.. في شكل اتحادٍ فيدرالي أو كونفدرالي أو على نمطِ الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية.. لماذا يستنكرون علينا حتى مجرد الحل بهذا الكيان الذي افتقدناه وصرنا لا رابطَ لنا ولا قوة ولا وضع معتبر.
أما الموضوع الثاني: وكان في جريدة الأهرام بتاريخ 15/11/2006م لكاتب وشاعر شهير يحتل زاوية ومساحة أسبوعية.. يكتب تحت عنوان "كل عقل نبي" يتحدث الكاتب عن الشاعر حسن طلب الذي جمع بين الشعر والفلسفة كما يذكر..
يقول: الشعراء قليلون وإن كثروا وهم غاوون كما ذكروا
فهل يا ترى هذا الشاعر يشكك في قضية أن "الشعراء يتبعهم الغاوون" أم أنه يقر بهذه القضية.. وعمومًا وحتى يطمئن مَن يخوضون في هذه القضية أن هناك فئةً مستثناة من هذا الضلالِ وهم المذكورون في الآية رقم 227 من سورة الشعراء.
ويُؤخذ على الكاتب وهو يروي هذه القصيدة أنه يستعمل مصطلحاتٍ غريبةً على الفكر الإسلامي مثل أن نرفع العقل إلى مستوى أن يُطلَق عليه أنه "نبي" كيف ذلك.. والعقل لا يخرج عن كونه وسيلة من وسائل المعرفة.. ويُغالي الشاعر أكثر فيذهب إلى "كذب الظن لا إمام سوى العقل".
ويغالي أكثر وأكثر فيقول "فاسألنه، فكل عقل نبي" هكذا مرة واحدة.. كل عقل بهذه البساطة.. فتعدد النبوات بتعدد العقول ولا شك أن العقول تختلف وتتضارب وتتعارض ولا يمكن أن تستقيم الحياة.. بالعقول فقط.. هذا يوصلنا إلى حقيقة وصل إليها علماؤنا بأن "العقل" بدون "النقل" لا يصلح ولا يصل إلى الحق وتنظيم حياة الناس.
وبعد.. فهؤلاء الكتاب.. يظنون أن مَن يطلق لنفسه العنان في نحتِ ألفاظ أو مصطلحاتٍ دخيلة على ثقافتنا وآصالتنا.. إنما هو مبدع وتقدمي وتنويري.. وقد يتصادم ذلك مع ثوابتنا وديننا.. هؤلاء الكتاب يلزم أن يعبروا عن رُوحِ الأمة ومنطلقاتها وأصولها.. ويلزم أن يتجهوا بإبداعهم إلى ما يرقى من حياة الأمة ويرفع عنها الظلم والفساد والاستبداد.. ويعمق قضايا الإصلاح والحريات وإحساس المواطن بأن له كرامة ويعيش في مجتمعٍ كريم.. ويا أيها العلمانيون.. عودة إلى الله ينصلح حالكم وتتصالحوا مع أمتكم.
------------ --------- --------- --------- --
بقلم: سيد نزيلي