يكتبها : المصري
الصرماتي مات!
الأسبوع اللي فات صاحبي قال لي سعيد الصرماتي مات.. ولما شافني حزين سألني أنت فاكر هو مين!.. إلا فاكر.. هو فيه صرماتي تاني.. دا احنا معرفناش غير سعيد.
وسرحت في الستينات.. لما كنا بنلعب كورة في بين السرايات.. أحلي شارع في العباسية.. الفرق كانت تيجي لنا من بعيد.. نغلبها أو تغلبنا لكن عمرنا مازعلنا ولا اتخانقنا.. عزوز بتاع مصر الجديدة وهيما بتاع حلوان.. وسوكة اللي في العتبة.
كانوا كباتن كبار.. صحيح الكورة كانت شراب لكن الفن كان عالي.. وكان معانا صفوت عبدالحليم اللي بيرقصّ طوب الشوارع.. كان يزوغ من الأهلي ويلعب كورة شراب.. هيديكوتي مرة قال له يا الأهلي يا الشراب.. قال له الأهلي يا خواجة.. لكن عينيه الخضر فاضت بالدموع حزنا علي "التقسيمات" بتاعة العباسية.. المهم أننا كلنا عرفنا سعيد الصرماتي علشان جزم الكورة.. الوحيد اللي يعرف يصلحها.. وكان فنان.. لا عمر اللصق بتاعه فك ولا خيوطه اتقطعت.. محدش من الكباتن صلح عنده جزمته ورجع له تاني الا بعد ما يشتري جوز جديد ويبوظ.
سعيد كان فاتح في شارع البراد والمنطقة كلها فنانين.. الموجي وكمال الطويل.. توفيق الدقن وأبوزهرة وعيلة ذو الفقار صلاح وعز ومحمود.. حورية حسن وجوزها زين العشماوي.. وطبعا أعمامنا الكبار نجيب محفوظ وعبدالقدوس وجودة السحار.. سعيد خدم الحرفية والفنانين.. ويمكن عشان كده كان هو راخر ايده تتلف في حرير.
ومش سر أن سعيد علمنا حاجات كتير.. أحرف واحد لعب شطرنج.. وعلمنا كلنا التفكير شوف لما صرماتي يبقي زي كاسباروف.. شيء غريب.. لا والأغرب منه أنه كان بيضرب عود لما غزالته تروق وتحلي.. سعيد كان بيشتغل من ثمانية الصبح لغاية ستة.. وبعدين يقفل الدكان نص قفلة.. ويطلع الواح الشطرنج يرصها علي الرصيف ويلاعبنا كلنا مرة واحدة.. ساعات نكون اتناشر وساعات عشرة.. لكن عمرنا ما غلبناه لأنه زي ما قلت لكم كانت ايده تتلف في حرير أما دماغه فكانت بجد "منارة" تفكير.
كتير سألته معقول يا عمنا بالفن ده كله والمخ ده اللي بيبرق وتشتغل لا مؤاخذة صرماتي.. قال لي ومالها الشغلانة.. حد يعرف يشتغلها زيي.. صحيح كنا نحب نتفرج عليه وهو ماسك الشاكوش.. كأنه قانون.. مفيش هبد ورزع زي كل الجزماتية.. هما دقتين وغرزتين والجزمة تبقي أوكيه.
مشفتش حد زي سعيد بيحب صنعته.. ولا راضي بقسمته.. كان بياخد "بريزة" ويخلي الجزمة جديدة.. ولما كنا نتفرج عليه نقول سبحان الله جاب الفن دا كله منين.. عمري ما حبيت اتفرج علي صنايعي الا سعيد.. فنان وعنده ذمة وملتزم.. ثلاث صفات لا تجتمع في إنسان.. فالفنان في هذا الزمان ليس له مواعيد.. وأحيانا "يضربها في صرصور ودنها" عشان يعيش.. ولما مات سعيد مخبيش عليكم حسيت أن الصنايعية انقرضوا من مصر المحروسة.. مش بس الصنايعية.. حتي العباسية مبقاش فيها فنانين.. ولا "شطرنجية".. ولا عوادين.. ولا كورة شراب.. حتي العيال التي تلعب في الحواري مفيش حد فيهم زي كباتن زمان.. يمكن آخرهم كان ماهر همام.. بس بأقولكم ان مصر وهي مشغولة بلقمة العيش.. وهدة الحيل.. حيطلع منها برضه فنانين وحرفية وصنايعية.. والأهم من كل ده.. حييجي ناس يحبوا شغلهم حتي لو كانوا "صرماتية".