العالم العربي هو القطعة الجغرافية الوحيدة في الدنيا التي يظن أهلها أن النتائج المنطقية لعملية حسابية هي مفاجأة!
كل الأشياء الأكثر وضوحا من سماء الأزرق الكبير تمثل لنا مفاجآت رغم زعم كل واحد من أهل الضاد أنه ( يفهمها وهي طايرة)، وأنه لمّاح وذكي وفهلوي، بل هو معهد استراتيجي متحرك لتحليل الواقع والاستنباء بالمستقبل.
وعندما يلقي أحمد عبد الله علي صالح خطاب الرئاسة، أو يُقْسِم جمال مبارك على احترام الدستور، أو يستقبل القائدُ الشاب سيف الاسلام القذافي ضيوفَه في خيمة والده الراحل قائد ثورة الفاتح، أو تغتال الطائرات الاسرائيلية إسماعيل هنية أو تكتشف دمشق وجود إيللي كوهين جديد في أعلى مناصب الدولة أو نعرف أن هواتف الأردنيين والفلسطينيين في المملكة الهاشمية مراقَبة إسرائيليا أو تكشف صحيفة بريطانية حسابات أعضاء الحكومة العراقية في مصارف أوروبية وبها ملايين دخلت مباشرة من جهات رسمية أمريكية، فسيضرب أكثرنا كفّاً بكفٍ كأنها مفاجأة لم تدر بذهن أعلانا ذكاء وخبرة تحليلية!
المشهد العراقي أينما نظرت إليه، مكانا وزمنا، فسيقودك حتما إلى أن التقسيم كان أكثر وضوحا من الاحتلال نفسه، وأن المطلوب فقط هو نقل الحالة النفسية الآمنة من وطن موحد إلى وطن مجزء، ومن عشق نخيل العراق إلى التمييز بين أنواع التمر في كل منطقة، ومن منارة مسجد تخشع فيه قلوب المؤمنين إلى اسم المسجد حيث تحدد الطائفة حجم ونوع مفتاح الجنة.
ألم نكن نعلم جميعا أن الديكتاتورية تؤدي إلى هزيمة الوطن ولو بعد حين؟
يصعد هتلر في عام 1933 ليلقي خطاب الأمة، لكن عودة تحليلية لزمن مضى تفضح حماقة التبرير، فالمشروع النازي كان يحمل معه هزيمة أمة مثل ربيبه الفاشي، بل إن ستة ملايين سوفييتي تخلص منهم ستالين لم يكونوا بعيدين عن سبب تفكك الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بثمانين عاما.
ألم يكن التقسيم الأمريكي لسماء العراق عام 1991 لثلاث مناطق بخطوط عرض بداية التقسيم الأرضي؟
ثم جاء الاحتلال الأمريكي فوق ظهور المتعاونين العراقيين من معارضة الخارج والداخل والتي تكوّنت بفضل غباء وحماقة وغطرسة طاغية بغداد، وبدأت حروب الكراهية، واكتشف العراقيون (فجأة) أنهم شيعة وسُنّة وأكراد وتركمان ومسيحيون.
لا يختلف التقسيم عما قام به الاستعمار في أي مكان آخر، فالكوريتان الجنوبية والشمالية تمزقتا بفعل قوى خارجية، ويوغوسلافيا انشطرت لعدة مناطق، وساهمت الكراهية الطائفية في عمليات الابادة والقتل والخطف، ثم الهجرة من مكان إلى آخر أكثر أمنا للانضمام لنفس الطائفة، لكنه أسرع مفعولا لتحقيق التجزئة.
والعراق كان لأكثر من ست عشرة سنة ينقسم في داخل الذهنية العراقية، لذا لم يقف السُنّة بجانب اخوانهم الشيعة خلال ثورة مارس التي كادت تقضي على صدام حسين، ولم يكترث الشيعة لابادة الأمريكيين اخوانهم السُنّة منذ بدء الغزو الأمريكي الهمجي.
وظن الأكراد أن دولة مستقلة عن العراق ستجعل تركيا تتفاوض معهم على قََدَم المساواة، واحتارت دول الجوار بين الانحياز لطائفة أو الخضوع للأمر الواقع والتعامل مع العراق كثلاث دول لم تعلن استقلالها على الطريقة السوفييتية بعد.
الأمريكيون قاموا بتقسيم العراق عمليا بعدمامهدت الديكتاتورية لتربة خصبة من الكراهية، وجاء المغرضون والحمقى والبلهاء والفضائيون ليعرضوا بضاعتهم في تحميل أحد الأطراف مسؤولية أم الجرائم، لكن الواقع أن التحليلات السياسية والاستراتيجية والقومية والوطنية والثقافية ساهمت معظمها في تفتيت العراق عمليا لأنها لم تنطلق من مكان واحد وهو التسامح الديني والعقيدي والمذهبي.
حكومة فيشي العراقية غرست في الجسد العراقي الجريح الطائفية كحقيقة لابد من التعامل معها ب ( عقلانية )، فجاءت عشرات الآلاف من الحكايات في الكتب والصحف والانترنيت والفضائيات والشارع والبيت لتعلي من شأن طائفة، وتحمّل الأخرى، أو الأخريات مسؤولية تدهور الوضع.
لم يعد الآن بعد قرار أسيادنا في الكونجرس الأمريكي مَفَرّ عن التراجع، ألم تكن الهندُ أمةً واحدة، فخرجت من أحشائها باكستان، ثم جاء مولود جديد في الناحية الأخرى من الوطن الكبير لتكبر بنجلاديش كعملاق فقير يجعل الدول الثلاث في حالة خوف وتوجس حتى لو كانت تحمل توقيع معاهدات سلام دائمة؟
دفع العراقيون ثمنا باهظا عندما تعاونوا مع صدام حسين خوفا ورعبا ولم يفكر أي استشهادي أو انتحاري في تفجير سيارته في موكب الرئيس!
تسع أو عشر عمليات خالصة لوجه الحرية والوطن يقوم بها العراقيون ضد الحرس الوطني للطاغية كانت كفيلة لتحرير العراق قبل أن يتصل بالأمريكيين متعاون عراقي مغترب يدفء مؤخرَته موتورُ دبابةٍ أمريكية تخترق شوارعَ عاصمة الرشيد.
سيقول قائل: ولكن طاغية بغداد قام بتجنيد ثلث سكان العراق للتجسس على الثلثين الآخرين، وتلك حجة على العراقيين وليست لهم. السلاح الوحيد لصناعة معجزة افشال التقسيم هو التسامح، ورفض أي حديث في الشارع أو البيت أو المقهي أو حتى بين صديقين أو شقيقين عن تحمّل طائفة أخرى مسؤولية انهيار وطن، وتجزئة أمة عريقة، وتحقيق حلم إسرائيلي طال لنصف قرن.
وعندما يفكر العراقي بأن مفتاح الجنة ليس مع طائفته فقط أو رجال مذهبه أو قيادات فرقته فقد تعرف على الطريق الوحيد لتوحيد العراق رغم أنف كل خصومه في الداخل والخارج.