عندما وصل مارك
زكربيرغ إلى مدينة بالو آلتو في ولاية كاليفورنيا قبل ثلاث سنوات لم يكن يملك
سيارة تقله أو بيتاً يأويه أو عملاً يقيه من السؤال، وحتى لا تبدو هذه الصورة
القاتمة كفصل من رواية البؤساء فإن مارك اليوم يمسك بدفة قيادة موقعه
الاجتماعي “فيس بوك دوت كوم” Facebook.com الذي اشتهر عالمياً بوصل الناس
بعضهم ببعض، رافضاً بنفس الوقت الأيدي التي مدت إليه بعروض تصل إلى مليار
دولار. فهل يُعقل هذا الولد؟
الحياة على حافة الهاوية
خلال ثلاث
سنوات فقط تحولت عمليات موقع “فيس بوك دوت كوم” من غياهب الشقق المؤجرة
بالتسوية إلى رحاب مكاتب الشركات الفارهة التي يتوفر فيها ثلاث وجبات يومياً
إضافة إلى خدمة الكي والغسيل الجاف، لكن برغم هذا التطور الظاهر إلا أنها قد
بقيت مبعثرة كغرف طلاب سكن الجامعات.
تشبه حياة زكربيرغ قصة فيلم بدأ
بطفل معجزة يخترع ظاهرة تكنولوجية أثناء دراسته في جامعة راقية، وهي هارفرد،
ومن ثم يطلقها لتثير زوبعة من الاهتمام. ومع صعود نجمه يبدأ الطلاب البارزون
بالتجول قرب غرفته في سكن الجامعة على أمل التعرف عليه شخصياً. وينتهي هذا
الفصل بتركه للكلية ليعمل على تطوير اختراعه ويصبح السوبرمان الذي سيغير
العالم كما عهدناه. وفعلاً ما بدأ من ثلاث سنوات كمجرد موقع انترنت
اجتماعيNetworking Site يخص طلاب الجامعة أصبح الآن الوجهة المفضلة لما يربو
عن 19 مليون مشترك، منهم موظفين في الوكالات الحكومية وشركات في قائمة
العمالقة الـ 500. ويتلقى الموقع يومياً زيارات من أكثر نصف عدد مشتركيه.
فبحسب شركة “كومسكور ميديا ميتريكس” التي تتعقب حركة شبكة الانترنت فإن موقع
“فيس بوك” هو سادس موقع استخداماً في الولايات المتحدة- وهذا يعني أن 1% من
الوقت على الانترنت تذهب لصالح موقع “فيس بوك”. كما صُنف الموقع بحسب الشركة
المذكورة في المرتبة الأولى من ناحية أعداد الصور المتبادلة على الانترنت،
حيث يصل عدد تلك المحملة في الموقع يومياً إلى ستة ملايين صورة. وبدأ الموقع
ينافس محرك البحث “غوغل” وغيره من عمالقة التكنولوجيا باعتباره الوجهة
المفضلة للموهوبين من المهندسين الشباب الساعين في وادي السيليكون الأمريكي.
تقول ديبرا آهو وليامسون وهي محللة في شركة إي-ماركترe-Marketer بأن الموقع
يسير بخطوات حثيثة لجلب 100 مليون دولار من العوائد هذه السنة - وهذا مبلغ لا
يستهان به.
يعترف زكربيرغ أنه “هاكر”Hacker بقوله: “يظن معظم
الناس لدى سماعهم كلمة “هاكر” أن الموضوع يدور حول اختراق الأنظمة”، لكنه
يجاريك بهذا الرأي إذا ما وصفته بهاكر عندما يعرف أنك تختلف معه في ترجمته
لهذه الكلمة. فبالنسبة له يدور مجتمع الهاكر حول المشاركة بالجهد والمعرفة
لإنجاز شيء أكبر وأفضل وأسرع مما يمكن لفرد واحد القيام به. ويشرح ذلك
قائلاً: “هناك تركيز شديد على الانفتاح والمشاركة بالمعلومات كاستراتيجية
عملية ونموذجية لإنجاز أي شيء”. حتى أنه قام باختراع مصطلح جديد باسم
“هاكاثونز” Hackathons علقه على موقع فيس بوك- وهو مرادف لما قد يفسره
الآخرون على أنه جلسة مركزة لتبادل الأفكار بين مجموعة من
المهندسين.
مارك زكربيرغ، الهاكر الشرير
لكن ما دفع
موقع “فيس بوك” إلى واجهة العالم كان يعتمد بالأصل على الاقتحام والدخول غير
الشرعي من الطراز العتيد، وكان زكربيرغ هو الجاني. ترعرع زكربيرغ في ضاحية
“دوبس فيري” المترفة في نيويورك، وهو ثاني أخواته البنات والأبن الوحيد لطبيب
أسنان (بالمناسبة لم يكن يعاني من التسوس) وطبيبة نفسانية (أترك للقارئ
التفكير بالدعابة المناسبة هنا). بدأ بالعبث بالكمبيوتر بعمر مبكر وتعلم
بنفسه كيفية البرمجة. وطور هو وزميله دي آنجلو قبل تخرجهما من الثانوية
برنامج يعمل كميزة إضافية لمشغل موسيقى mp3 المشهور باسم وين آمب “Winamp”،
ويهدف إلى تتبع وتعلم عاداتك في الاستماع إلى الموسيقى ليقوم لاحقاً بإنشاء
قائمة الأغاني التي يحبها ذوقك. وبعد نشرهما للبرنامج مجاناً على الانترنت
ثار اهتمام كبرى الشركات مثل مايكروسوفت وأمريكا أون لاين وخاطبوه على الهاتف
بلهجة يستذكرهها زكربيرغ بقوله: “أنظر يمكنك المجيء للعمل لدينا. آه
وبالمناسبة أحضر معك ذاك الشيء الذي برمجته”. لكن عوضاً عن تلقف هذه العروض
قرر الاثنان متابعة الدراسة، فالتحق دي آنجلو في جامعة “كالتك” وزكربيرغ في
جامعة “هارفرد”.
وهنا وقعت أحداث حلقة جريمة الاختراق التي بدأت
دوافعها بسبب عدم توفير جامعة هارفارد لأسماء وصور الطلبة في دليل أساسي، وهو
دليل متعارف عليه لدى جامعات أخرى باسم كتاب وجوه الطلبة Face Book،
وبالمقابل أراد زكربيرغ إنشاء نسخة الكترونية من هذه المعلومات، لكن الجامعة
كما يقول زكربيرغ :”أصرت على مقولة أن الكثير من الأسباب تحول دون جمع تلك
المعلومات” ويضيف: “أردت فقط أن أبرهن لهم أن ذلك ممكن”. ففي إحدى ليالي
بداية السنة الدراسية الثانية اخترق زكربيرغ سجلات الطلبة الإلكترونية في
الجامعة، وأنشأ موقعاً بسيطاً أطلق عليه اسم “فيس ماش” “Facemash” والذي يعمل
على مقارنة صور الطلبة مع صور الزائرين لتحديد أيهم “أكثر جاذبية” شكلاً.
وخلال أربع ساعات فقط قدم للموقع 450 زائراً وشوهدت 22,000 صورة، وعندما
اكتُشف أمره قطعت جامعة هارفرد وصلة الانترنت عن زكربيرغ. بعد حفلة توبيخه
على يد الإدارة والتي صاحبها جدل كبير في الحرم الجامعي بحسب ما دونته مجلة
الجامعة اعتذر زكربيرغ بكل أدب من زملائه الطلاب. لكن أصر على قناعته بأنه قد
فعل الصواب بقوله :”كنت اعتقد أن تلك المعلومات يجب أن تكون موفرة.” (رفضت
جامعة هارفرد التعليق على هذه الحادثة)
وبالنهاية عمد زكربيرغ إلى
مراوغة الإدارة. فقام بعمل نموذج لكتاب الوجوه Facebook وطلب من زملائه إدخال
بياناتهم بأنفسهم. وقد استهلك مشروعه وقتاً كثيراً منه حتى أنه مع نهاية
الفصل الأول وقبل يومين من امتحان الفن والتاريخ وجد نفسه في معضلة عويصة، لا
يكمن حلها إلا بدراسة 500 صورة من الحقبة الرومانية [المترجم: حقبة أغسطس أول
أمبراطور روماني]. يقول زكربيرغ :”لم تكن هذه المادة مشابهة للحساب أو
الرياضات من ناحية تطبيق النظريات ومن ثم احتساب الأرقام، حيث يجب حفظها قبل
وقت الامتحان.” وكان الحل أنه قام بمغامرة على نمط مغامرات توم سوير، فبنى
موقعاً على الانترنت ووضع كل من تلك الصور في صفحة وخصص مكاناً للتعليقات.
وبادر إلى إرسال بريد الكتروني يدعو فيه زملائه لزيارة الموقع والمشاركة
بملاحظاتهم عن تلك الصور التاريخية، تماماً كما يتم في حلقات دراسية لمناقشة
مهمة على الانترنت. ويضيف بقوله:”خلال ساعتين امتلأت صفحات الصور بالملاحظات
وكانت نتيجة الامتحان جيدة ليس بالنسبة لي فقط بل للجميع.”
انطلق موقع
Thefacebook. com كما سمي أصلاً في 4 فبراير 2004. واشترك فيه نصف الطلاب
الدارسين في جامعة هارفارد خلال اسبوعين ومن ثم وصل عددهم إلى الثلثين. انضم
لاحقاً إلى زكربيرغ صديقيه موسكوفيتز وكريس هيوز للمساعدة في إضافة مزايا
أخرى وتشغيل الموقع معتمدين على خدمة استضافة للمواقع كلفت 85 دولاراً في
الشهر. وتبع ذلك رغبة طلاب من كليات أخرى عرض بياناتهم ووجوههم على الموقع
مما دفع الثلاثي إلى تخصيص مساحات للمشتركين الجدد من جامعات مثل ستانفورد و
ييل. ومع حلول شهر مايو وصل المشتركين في الموقع إلى 30 جامعة. كانت العائدات
تأتي من الإعلانات الخاصة بالمناسبات الطلابية والأعمال الخاصة بالكليات
والتي بلغت بضع آلاف من الدولارات.
ويقول زكربيرغ عن هذا الانجاز “ما
تمنيناه هنا هو السفر إلى كاليفورنيا لإمضاء عطلة الصيف هناك احتفالا
بانجازنا.”
وفعلاً توجه في نهاية السنة الدراسية الثانية إلى مدينة
بالو آلتوPalo Alto بصحبة صديقيه موسكوفيتز وهيوز. استأجروا لدى وصولهم شقة
بالتسوية ليست ببعيدة عن حرم جامعة ستانفورد وهنا تدخلت الدجاجة لتبيض
ذهبا
وأثناء رحلة كاليفورنيا جاءت ضربة الحظ. ففي أحد الأمسيات التقى
زكربيرغ صدفة أثناء سيره في الشارع بأحد المساهمين في تأسيس برنامج “نابستر”
Napster وهو شون باركر. وحصل أن التقى الإثنان في شرق البلاد من قبل. وتبين
أن باركر هو الآخر قد انتقل إلى بالو آلتوPalo Alto ويبحث عن شقة للسكن. وهنا
يقول زكربيرغ: “ببساطة دعوناه ليسكن معنا”.
ولم يقف انضمام باركر
للسكن معهم عند هذا الحد، حيث تبين أن الرجل يتحلى بروح متألقة وسلّة كبيرة
من الأفكار ومفكرة هواتف يسيل لها اللعاب من كثرة أرقام الأشخاص المهمين فيها
- إضافة إلى سيارة!
كان باركر يمشي ويروي قصصاً تنذر بويلات قد تصيب
رواد الأعمال الشباب. فبعد أن فشل مشروع “نابستر” أمام الكثير من الدعاوى
القانونية التي شنتها شركات الأفلام والموسيقى، عمد باركر للمساهمة في إطلاق
بلاكسو Plaxo، وهو موقع يقوم على تحديث قائمة المعارف والأصدقاء. لكنه أشار
في معرض حديثه وأمام الجميع بأنه أُقصي من الشركة على يد عملاق الاستثمارات
مايكل موريتزMichael Moritz من شركة سيكويا كابيتالSequoia Capital وهي من
الداعمين الأوائل لشركة ياهو وغوغل ويوتيوب (رفضت شركة سيكويا التعليق على
هذا الأمر) لكن زكربيرغ صدق كل ما أورده باركر.
وخلال أسبوعين جمع
باركر زكربيرغ مع أول مستثمر كبير وهو ،بيتر ثيل Peter Thiel ، أحد مؤسسي
موقع “بيه بال” PayPal ورئيس أحد صناديق التحوط باسم كلاريوم كابيتالClarium
Capital والمدير الإداري في فاوندر فاندFounders Fund . وبعد جلستهم لمدة 15
عشر دقيقة متحدثاً فيها زكربيرغ عن مشروع “فيس بوك” ومحاولاً تسويق الفكرة،
ظهر على وجه ثيل ملامح الاهتمام بالمشروع بوضوح. ويقول “مات كوهلر” أحد زملاء
ثيل المتواجدين في ذلك الاجتماع :”بيتر من الأشخاص سريعي الكلام وهو ذو أسلوب
مرهب نوعاً ما، لكن مارك بقي هادئاً وحصل على المعلومات التي كان يريدها”.
وفي نهاية الحديث حصل مارك زكربيرغ أيضا على التزام بقيمة 500,000 دولار
كمبلغ تمويل مبدئيSeed Capital إضافة إلى مدخل لشبكة اجتماعية حصرية من أهم
الشخصيات العاملة في وادي السيليكون.
وهكذا أصيب زكربيرغ وأصدقاءه بما
قد يسمى “عدوى الريادةEntrepreneurial Bug “. حيث بدأ زكربيرغ في نهاية الصيف
معاودة التأمل في الموضوع عندما تذكر المحاضرة التي قدمها في هارفارد أحد
المشاهير من الذين تركوا الجامعة. فأثناء وجوده في أحد دروس علوم الحاسوب
استذكر بقوله :”حضر بيل غيتس وتحدث” وشجع الطلاب على ترك الجامعة وتحقيق شيء
ما -لأن هارفارد هي من الجامعات التي تسمح لطلابها بترك الدراسة لأي مدة
يرغبوا بها والعودة متى شاؤا- وقال غيتز ممازحاً :”إذا فشلت شركة مايكروسوفت
يوما ما، فسأعود لإكمال دراستي في هارفارد”. وبفضل الأموال التي ضخها ثيل قرر
زكربيرغ وموسكوفيتز اتباع نصيحة بيل غيتس.
وبدأ زكربيرغ ومجموعة من
كوادر المهندسين التي أخذت في ازدياد إدارة موقع “فيس بوك” انطلاقاً من عدة
مواقع مؤجرة في مدينة بالو آلتو، حيث اجتمع هؤلاء في جلسات برمجة لا متناهية
وهم جلوس على قطع أثاث بالية. ويعود زكربيرغ ليتذكر الأمر ضاحكاً بقوله :”لم
يكن لدينا أي مبلغ من النقود، حتى أننا اشترينا سيارة لا تحتاج لمفتاح وإنما
يكفي تدوير مقبض المفتاح كي تعمل”. وفي نوفمبر 2004 تعدى مستخدمي موقع فيس
بوك عتبة المليون. وبعد ستة أشهر وبمساعدة من ثيل، وقع زكربيرغ أوراق الحصول
على تمويل بقيمة 12.7 مليون دولار من شركة أكسل بارتنرز. وعندها قام بتوظيف
اسطول جديد من المهندسين (ومنهم ستيف كوهين الذي تركهم لاحقاً ليشارك في
تأسيس موقع يو تيوب YouTube) وانتقلت الشركة إلى موقع حقيقي يقع على جادة
جامعة بالو آلتو. وبحلول خريف 2005 وصل عدد الزوار إلى خمسة ملايين مستخدم
فعلي، أي أنهم يزورون الموقع مرة على الأقل في الشهر.